التصوف خلال الحملات الصليبية

التصوف خلال الحملات الصليبية

ممدوح الزوبي
المبحث الأول : ظروف النشأة
وهي سلسلة من الحروب دامت حوالي أربعة قرون وقد شنها المسيحيون الأوربيون لاغتصاب القدس وما حولها من بلاد المسلمين . . وبدأت في عهد السلاجقة الذين ظهروا في الشرق الأدنى في أوائل الثلث الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي وسيطروا على أجزاء واسعة من المملكتين الفاطمية والبيزنطية . وفي عام 1071م هزم السلاجقة البيزنطيين في معركة ملاذ كرد وأسروا الإمبراطور رومانوس ديوجينيس فوجه البيزنطيون نداءات عديدة للغرب كان آخرها الذي وجهه الإمبراطور الكسيوس الأول يطلب فيه المساعدة للوقوف في وجه المد الإسلامي . وكان وراء انطلاق هذه الحروب العظة التي ألقاها البابا أريان الثاني في مجمع كليرمنت عام 1095م . وحث فيها المسيحيين على محاربة المسلمين لتخليص القدس من المسلمين ووعد فيها المحاربين أن تكون رحلتهم إلى الشرق بمثابة غفران كامل لذنوبهم كما وعدهم بحماية منازلهم وأهلهم خلال غيابهم . . وقد أخذت الحروب الصليبية اسمها من الصلبان التي وزعت على الناس خلال انعقاد المجمع . . وإلى جانب الحافز الديني كانت هناك حوافز أخرى للحروب الصليبية حيث استهدف النبلاء المغانم المادية وتأسيس الإمارات فيما كانت للنورمان أهداف توسعية على حساب البيزنطيين والمسلمين على السواء . وكانت الحملة الصليبية الأولى بين عامي ( 1095 – 1099 م ) حيث بدأت بزحف عدة جيوش غير منظمة من الفلاحين الفرنسيين والألمان يقودها وولتر المفلس وبطرس الناسك واستهلوا أعمالهم بذبح بعض اليهود في أراضي الراين وهاجموا فيما بعد البلغار والمجريين وشتتوهم . . ثم تلتها فرق أخرى هاجمت القسطنطينية بقيادة الكسيوس الأول إلا أن الأتراك هزموها . وتبع ذلك جيش صليبي منظم بقيادة ريموند الرابع كونت تولوز الفرنسية 1097م يساعده جود فري بوريون وبسميد وتنكرد حيث أقسموا يمين الولاء للإمبراطور ألكسيوس الأول وتعهدوا بقبول سيادته على المناطق التي يحتلونها ويسيطرون عليها فزحفت جيوشهم على آسيا الصغرى واستولى على نيقية وهزم السلاجقة في دوريليوم واحتلت إنطاكية عام 1098م وعسقلان عام 1099م واستولت الحملة على القدس في تموز عام 1099م وأسست مملكة القدس اللاتينية واختير جود فري بويون حاكماً لها ولقب بحامي القبر المقدس كما أسست هيئتان عسكريتان مسلحتان هما هيئتا الداوية والأسبتارية . أما الحملة الصليبية الثانية فقد امتدت من عام ( 1147 – 1149م ) حيث دعا إليها سنت برنار لكيرنو بعد أن استولى عماد الدين الزنكي ( 1127 – 1146م ) على الرها وكان عماد الدين قد أسس الدولة الزنكية في الموصل بين عامي ( 1127 – 1162م ) . وتزعم الدفاع عن الإسلام والمسلمين وأراضيهما وبدأ سلسلة من الهجمات ضد الصليبين انتهت بإجلائهم في زمن المماليك عن الشرق الأدنى والعالم الإسلامي . وقاد الحملة كنراد الثاني الألماني ولومي السابع الفرنسي إلا أنهما فشلا في إحراز أي نصر يذكر على المسلمين وقد تولى محاربة الصليبيين في هذه الحروب نور الدين محمود الزنكي الذي خلف أباه عماد الدين على إمارة حلب . واستطاع نور الدين بفضل ما أوتي من مقدرة وشجاعة ان يستولي على بعض ما كان الصليبيون قد استولوا عليه وأن يأسر جوسلين الثاني في عام ( 1151م ) وبوهمند الثالث صاحب إنطاكية وريموند الثالث صاحب طرابلس . وبعد وفاة نور الدين تابع القائد الإسلامي الشهير صلاح الدين الأيوبي – وكان من رجال نور الدين – محاربة الصليبيين بعد أن قضى على الخلافة الفاطمية عام 1171م وبعد وفاة نور الدين ضم صلاح الدين الشام إلى ملكه وتمكن في عام 1187م من هزيمة الصليبيين في معركة حطين الشهيرة والاستيلاء في نفس العام على القدس عاصمة المملكة اللاتينية . بعد ذلك بدأت الحملة الصليبية الثالثة التي جاءت رداً على انتصارات صلاح الدين الأيوبي وذلك بين عامي ( 1189 – 1192م ) وكانت تحت قيادة شخصيات أوربية بارزة وهم فريدريك الأول إمبراطور ألمانيا وريكاردوس ( ريتشارد قلب الأسد ) ملك إنجلترا وفيليب الثاني ملك فرنسا حيث استولى الصليبيون خلال هذه الحملة على عكا بعد حصاردام نحو سنتين ( 1189 – 1191م ) فقام ريتشارد بقتل الأسرى لكن الحملة فشلت في استعادة القدس من صلاح الدين وعقد ريتشارد هدنة لمدة ثلاث سنوات مع صلاح الدين عام 1192م سمح بموجبها للحجاج المسيحين أن يفدوا إلى القدس للحج شرط ألا يتعرض لهم أحد بأذى . بعدها بدأت الحملة الصليبية الرابعة واستمرت بين عامي ( 1202 – 1204م ) حيث اتجهت حملة من فرنسا إلى القسطنطينية واقتحمت المدينة ونهبتها وأسست فيها الإمبراطورية اللاتينية التي بقيت حتى عام ( 1261م ) . بعد ذلك قامت حملة صليبية جديدة سميت بحملة الأطفال وذلك في عام 1212م ) حيث دعا إليها صبي فرنسي فلاح يدعى ستيفن كلوي وتوجه بالآف الأطفال إلى القدس لكن ربابنة السفن باعوهم رقيقاً بدلاً من إيصالهم إلى مبتغاهم . كما زحفت حملة من الأطفال الألمان براً لكنهم هلكوا جوعاً وعطشاً على الطريق . بعد ذلك بدأت الحملة الصليبية الخامسة بين عامي ( 1217 – 1221م ) حيث دعا إليها البابا أنوسنت الثالث وكان هدفها الاستيلاء على مصر . وقد استولت فعلاً على دمياط ولكن الجيوش الغازية ما لبثت أن أخلتها تحت ضغط المقاتلين المسلمين وانتهت الحملة بالفشل لتبدأ الحملة الصليبية السادسة بين عامي ( 1228 – 1229م ) التي تولى قيادتها الإمبراطور فريدريك الذي عقد معاهدة مع الملك الكامل سلطان مصر تقتضي بالتخلي عن الناصرة وبيت لحم والقدس للصليبيين ومنحهم ممراً بين القدس والساحل يسلكه الحجاج المسيحيون لكن ما لبثت أن تجددت الاشتباكات بين الفريقين مما أدى إلى إلحاق الهزيمة بالصليبين على يدي المماليك في عام 1244م مما مهد قيام الحملة الصليبية السابعة بين عامي ( 1248 – 1254م ) والتي تولى قيادتها الملك الفرنسي لويس التاسع حيث استولى على دمياط بلا قتال فارتد المصريون إلى المنصورة وكان حينها الملك الصالح نجم الدين أيوب سلطان مصر قد توفي فاستلمت زمام الأمور زوجته شجرة الدر فأفشلت حملة لويس وأسرته ولم تطلق سراحه إلا لقاء فدية كبيرة . بعد ذلك بدأت الحملة الصليبية الثامنة في عام ( 1270م ) التي قادها لويس التاسع ذاته فأغار على تونس لكنه توفي أثناء هذه الغارة لتعود الحملة من حيث أتت وفيما بين عامي ( 1271 – 1272م ) قامت الحملة الصليبية التاسعة بقيادة الإمبراطور إدوارد الأول الإنكليزي وكان نصيبها الفشل أيضاً حيث شدد المماليك ضغطهم على الصليبين ما أدى إلى سقوط عكا في عام 1291م التي كانت آخر معقل للصليبيين في الأراضي المقدسة .
وفي ظل ممارسات الأمراء العرب والأتراك والصليبيين اللاإنسانية ضد العامة لم يكن أمام هؤلاء إلا الهروب إلى مدن أخرى أكثر أمناً ووفرة في الغذاء إلا قسماً منهم حمل السلاح وواجه الصليبيين والأمراء معهم ومن هؤلاء الصوفية مثل القادرية والغزالية وغيرها .
وقد جاءت هذه الحروب نتيجة لإحساس ملوك أوربا وقادتها بضعف العرب والمسلمين بسبب التناحر فيما بينهم على السلطان والحكم . وخاصة في مصر التي شهدت في هذه الفترة قيام عدد من الدول مثل الدولة الطولونية التي سلخها عن الدولة العباسية رجل تركي يسمى طولون وأصله من تركستان حيث أخذ أسيراً في إحدى الوقائع وجيء به إلى أسد الصاصي عامل المأمون على بخارى فبعثه ابن أسد إلى الخليفة ضمن المماليك الذين أرسلهم سنة 816م فأعجب المأمون به وألحقه بحاشيته ورقاه إلى أن أصبح زعيم حرسه . أما ابنه أحمد بن طولون فقد تولى مصر في أواخر خلافة المتوكل سنة 869م حيث استكثر من شراء المماليك والعبيد الفرنج مما قوى ساعده فادعى الخلافة وانفرد بخراج مصر . ثم ملك دمشق وحمص وحماة وحلب وإنطاكية وطرطوس . ومات في مصر سنة 884م وبعد هزيمة القرامطة قام العباسيون بقيادة المكتفي بالله باستعادة مصر وطردوا أولاد ابن طولون . . ولكن محمد بن طغج أمير مصر للعباسيين أعلن في عام 935م استقلال مصر وثبته الخليفة الراضي مرغماً ولقبه بالإخشيد . لكن انقراض الدولة الإخشيدية سهل قيام الدولة الفاطمية التي حاربت القرامطة وهزمتهم مما جعل أمراءها ينازعون العباسيين .
وفي عام 1172م استولى صلاح الدين الأيوبي على مصر عاملاً لنور الدين الزنكي . وعندما استقر الأمر له أحضر أخوته وأهله وأقطعهم الإقطاعات العظيمة . وفي عام 1172م أظهر صلاح الدين ميلاً للاستقلال عن الدولة الزنكية في الشام . لكن نور الدين الزنكي وافته المنية قبل أن يحارب صلاح الدين ويخرجه من مصر فاستولى صلاح الدين على الشام وأخذ يعد العدة لخوض الحرب ضد الصليبيين .
وبعد صلاح الدين قامت دولة المماليك الترك المعروفة بالبحرية عام 1250م ثم دولة المماليك الجراكسة عام 1382م وساد قيام هذه الدول مناحرات وقتال أضعف من قدرة مصر وبلاد الشام على مواجهة الصليبيين إضافة إلى المناحرات التي سادت بلاد الشام بين السلاجقة والأتابكة والأيوبيين .
وقد تخلل هذه الصراعات ضغوطات جمة على عامة الشعب حيث كان كل أمير وكل قائد يسعى إلى الحصول على أكبر قدر من الأموال من أجل تمويل قواته وجيوشه لمواجهة الأمير الآخر . فيما كان الصليبيون ، في كل بلد يدخلونه يقتلن أهله ويخربون عمرانه ويحرقون كتبه ومتاعه وآثاره . مما جعل الناس يهيمون على وجوههم في البراري فمنهم من هرب إلى داخل الشام ومنهم من فر إلى مصر .
ويقول المؤرخ ميشو : وقد ارتكب الصليبيون في احتلال القدس أنواع التعصب الأعمى الذي لم يسبق له نظير حتى شكا من ذلك المصنفون من مؤرخيهم فكانوا يكرهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعالي البروج والبيوت ويجعلوهم طعاماً للنار ويخرجوهم من الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الساحات ويقتلونهم فوق جثث الآدميين وأعظم العوامل التي ساعدت الصليبيين على هذا النصر تفرق كلمة القابضين إذ ذاك على زمام الأمور في المنطقة .
وفي ظل هذه الظروف البغيضة الكريهة لم يجد الناس بداً من مقارعة الصليبيين فكان لأتباع الصوفية دوراً بارزاً في ذلك حيث اشتركوا في حملات نور الدين الزنكي وصلاح الدين الأيوبي كما قاتلوا الصليبيين في مصر وانتصروا عليهم . ونجحوا في مواجهة حركات التنصير في إفريقيا ودحروهم ونشروا الإسلام في صفوف الوثنيين الأفارقة .
المصدر: الطرق الصوفية ظروف النشأة وطبيعة الدور لممدوح الزوبي - ص 135 - 141 .

موضوع قيم يستحق القراءة الف شكر على العلومات القيمة دمتم ودام منتداكم